الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البخلاء **
فأما أسد بن جاني فكان يجعل سريره في الشتاء من قصب مقشر لأن البراغيث تزلق عن ليط القصب لفرط لينه وملاسته. وكان إذا دخل الصيف وحر عليه بيته أثاره حتى يغرق المسحاة. ثم يصب عليه جراراً كثيرة من ماء البئر. ويتوطؤه حتى يستوي. فلا يزال ذلك البيت بارداً ما دام ندياً. فإذا امتد به الندى ودام برده بدوامه اكتفى بذلك التبريد صيفته. وإن جف قبل انقضاء الصيف وعاد عليه الحر عاد عليه بالإثارة والصب. وكان يقول: خيشتي أرض وماء خيشتي من بئري وبيتي أبرد ومؤنتي أخف. وأنا أفضلهم أيضاً بفضل الحكمة وجودة الآلة. وكان طبيباً فأكسد مرة فقال له قائل: السنة وبئة والأمراض فاشية وأنت عالم ولك صبر وخدمة ولك بيان ومعرفة. فمن أين تؤتى في هذا الكساد قال: أما واحدة فإني عندهم مسلم وقد اعتقد القوم قبل أن أتطيب لا بل قبل أن أخلق أن المسلمين لا يفلحون في الطب! واسمي أسد وكان ينبغي أن يكون اسمي صليباً ومرايل ويوحنا وبيرا وكنيتي أبو الحارث وكان ينبغي أن تكون أبو عيسى وأبو زكريا وأبو إبراهيم. وعلى رداء قطن أبيض وكان ينبغي أنت يكون رداء حرير أسود. ولفظي لفظ عربي وكان ينبغي أن تكون لغتي لغة أهل جنديسابور. قال الخليل السلولي: أقبل علي يوماً الثوري وكان يملك خمسمائة جريب ما بين كرسي الصدقة إلى نهر مرة. ولا يشتري إلا كل غرة وكل أرض مشهورة بكريم التربة وشرف الموضع والغلة الكثيرة. قال: فأقبل علي يوماً فقال لي: هل اصطبغت بماء الزيتون قط قال: قلت: لا والله لو فعلته ما نسيته! قال: قلت: أجل إني والله لو فعلته لما نسيته! وكان يقول لعياله: لا تلقوا نوى التمر والرطب وتعودوا ابتلاعه وخذوا حلوقكم بتسويغه فإن النوى يعقد الشحم في البطن ويدفئ الكليتين بذلك الشحم! واعتبروا ذلك ببطون الصفايا وجميع ما يعتلف النوى! والله لو حملتم أنفسكم على البزر والنوى وعى قضم الشعير واعتلاف القت لوجدتموها سريعة القبول! وقد يأكل الناس القت قداحاً والشعير فريكا ونوى البسر الأخضر ونوى العجوة. فإنما بقيت الآن عليكم عقبة واحدة: لو رغبتم في الدفإلا لتمستم الشحم. وكيف لا تطلبون شيئاً يغنيكم عن دخان الوقود وعن شناعة العكر وعن ثقل الغرم والشحم يفرح القلب ويبيض الوجه. والنار تسود الوجه. أنا أقدر أن أبتلع النوى وأعلفه النساء. ولكني أقول ذلك بالنظر مني لكم. وكان يقول: كلوا الباقلي بقشوره فإن الباقلي يقول: من أكلني بقشوري فقد أكلني ومن أكلني بغير قشوري فأنا الذي أكله! فما حاجتكم إلى أن تصيروا طعاماً لطعامكم وأكلاً لما جعل أكلاً لكم وكان يعين مالاً عظيماً. ولم يكن له وارث. فكان يسخر ببعضهم فيقول عند الإشهاد: قد علمتم أن لا وارث لي. فإذا مت فهذا المال لفلان! فكان قوم كثير يحرصون على مبايعته لهذا. وقد رأيته أنا زماناً من الدهر ما رأيته قط إلا ونعله في يده أو يمشي طول نهاره في نعل مقطوعة العقب شديدة على صاحبها! قال: فهو ذا المجوس يرتعون البصرة وبغداد وفارس والأهواز والدنيا كلها بنعال سندية. فقيل له: إن المجوسي لا يستحل في دينه المشركة فأنت لا تجده أبداً إلا حافياً أو لابساً نعلاً سندية. وأنت مسلم ومالك كثير. قال: فمن كان ماله كثيراً فلابد له من أن يفتح كيسه للنفقات وللسراق قالوا: فليس هاتين منزلة قال الخليل: جلس الثوري إلى حلقة المصلحين في المسجد. فسمع رجلاً من مياسيرهم يقول: بطنوا كل شيء لكم فإنه أبقى. ولأمر جعل الله دار الآخرة باقية ودار الدنيا فانية. ثم قال: ربما رأيت المبطنة الواحدة تقطع أربعة أقمصة والعمامة الواحدة تقطع أربعة أزر ليس ذلك إلا لتعاون الطي وترافد الأثناء. فبطنوا البواري وبطنوا الحصر وبطنوا البسط وبطنوا الغداء بشربة باردة! ل فقال الثوري: لم افهم مما قلت إلا هذا الحرف وحده! قال الخليل: حم الثوري وحم عياله وخادمه فلم يقدروا مع شدة الحمى على أكل الخبز. فربح كيلة تلك الأيام من الدقيق ففرح بذلك وقال: لو كان منزلي سوق الأهواز أو نطاة خيبر أو وادي الجحفة لرجوت أن أستفضل كل سنة مائة دينار! وكان يقول: أول الإصلاح - وهو من الواجب - خصف النعل واستجادة الطراق وتشحيمها في كل الأيام وعقد ذؤابة الشراك من زي النساك لكيلا يطأ عليه إنسان فيقطعه. ومن الإصلاح الواجب قلب خرقة القلنسوة إذا اتسخت وغسلها من اتساخها بعد القلب. واجعلها حبرة فإنها مما له مرجوع! ومن ذلك اتخاذ قميص الصيف جبة في الشتاء واتخاذ الشاة اللبون إذا كان عندك حمار. واتخاذ الحمار الجامع خير من غلة ألف دينار: لأنه لرحلك وبه يدرك البعيد من حوائجك وعليه يطحن فتستفضل عليه ما يربحه عليك الطحان. وينقل عليه حوائجه وحوائجك حتى الحطب. ويستقي عليه الماء. وهذه كلها مؤن إذا اجتمعت كانت في السنة مالاً كثيراً ثم قال: أشهد إن الرفق يمن وإن الخرق شؤم. واشتريت ملاءة مذارية فلبستها ما شاء الله رداء وملحفة. ثم احتجت إلى طيلسان فقطعتها - يعلم الله! - فلبسته ما شاء الله. ثم احتجت إلى جبة فجعلته - يعلم الله! - ظهار جبة محشوة فلبستها ما شاء الله. ثم أخرجت ما كان فيها من الصحيح فجعلته مخاد وجعلت قطنها للقناديل. ثم جعلت ما دون خرق المخاد للقلائس. ثم عمدت إلى أصح ما بقي فبعته من أصحاب الصينيات والصلاحيات. وجعلت السقاطات وما قد صار وقد رأيته وسمعت منه في البخل كلاماً كثيراً. وكان من البصريين ينزل في بغداد مسجد ابن رغبان. ولم أر شيخاً ذا ثروة اجتمع عنده وإليه من البخلاء ما اجتمع له: منهم إسماعيل بن غزوان وجعفر بن سعيد وخاقان بن صبيح وأبو يعقوب الأعور وعبد الله العروضي والحزامي عبد الله بن كاسب. وأبو عبد الرحمن هذا شديد البخل شديد العارضة عضب اللسان. وكان يحتج للبخل ويوصي به ويدعو إليه. وما علمت أن أحداً جرد في ذلك كتاباً إلا سهل بن هارون. وأبو عبد الرحمن هذا هو الذي قال لابنه: أبي بني إن إنفاق القراريط يفتح عليك أبواب الدوانيق وإنفاق الدوانيق يفتح عليك أبواب الدراهم وإنفاق الدراهم يفتح عليك أبواب الدنانير. والعشرات تفتح عليك أبواب المئين والمئون تفتح عليك أبواب الألوف حتى يأتي ذلك على الفرع والأصل ويطمس على العين والأثر ويحتمل القليل والكثير! أي بني إنما صار تأويل الدرهم: دار لهم وتأويل الدينار: يدني إلى النار الدرهم إذا خرج إلى غير خلف وإلى غير بدل دار لهم على دوانق مخرجة. وقيل: إن الدينار يدني إلى النار لأنه إذا أنفقته في غير خلف وأخرج إلى غير دل بقيت مخفقاً معدماً وققيراً مبلطاً. فيخرج الخارج وتدعو الضرورة إلى المكاسب الردية والطعم الخبيثة. والخبيث من الكسب يسقط وهذا تأويل الذي تأوله للدرهم والدينار ليس له إنما هذا شيء كان يتكلم به عبد الأعلى إذا قيل له: لم سمي الكلب قليطاً قال: لأنه قل ولطى! وإذا قيل له: لم سمي الكلب سلوقياً قال: لأنه يستل ويلقي! وإذا قيل له: لم سمي العصفور عصفوراً قال: لأنه عصى وفر! وعبد الأعلى هذا هو الذي كان يقول في قصصه: الفقير. . . مرفقته سلبة وجردقته فلقة وسمكته سلته في طيب له كثير. وبعض المفسرين يزعم أن نوحاً النبي عليه السلام إنما سمي نوحاً لأنه كان ينوح على نفسه وأن آدم سمي آدم لأنه حذي من أديم الأرض - وقالوا: كان لونه في أدمته لون الأرض - وأن المسيح سمي المسيح لأنه مسح بدهن البركة. وقال بعضهم: لأنه كان لا يقيم في البلد الواحد. وكان كأنه ماسح يمسح الأرض. ثم رجع الحديث إلى أعاجيب أبي عبد الرحمن: وكان أبو عبد الرحمن: وكان أبو الرحمن يعجب بالرءوس ويحمدها ويصفها. وكان لا يأكل اللحم إلا يوم أضحي أو من بقية أضحيته أو يكون في عرس أو دعوة أو سفرة. وكان سمى الرأس عرساً لما يجتمع فيه من الألوان الطيبة. وكان يسميه مرة الجامع ومرة الكامل. وكان يقول: الرأس شيء واحد. وهو ذو ألوان عجيبة وطعوم مختلفة. وكل قدر وكل شواه فإنما هو شيء واحد. والرأس فيه الدماغ فطعم الدماغ على حدة. وفيه العينان وطعمهما شيء على حدة. وفيه الشحمة التي بين أصل الأذن ومؤخر العين وطعمها على حدة. على أن هذه الشحمة خاصة أطيب من المخ ونعم من الزبد وأدسم من السلاء. وفي الرأس اللسان وطعمه شيء على حدة. وفيه الخيشوم والغضروف الذي في الخيشوم وطعمهما شيء على حدة. وفيه لحم الخدين وطعمه شيء على حدة - حتى يقسم أسقاطه الباقية. ويقول: الرأس سيد البدن: وفيه الدماغ وهو معدن العقل ومنه يتفرق العصب الذي فيه الحس وبه قوام البدن. وإنما القلب باب العقل - كما أن النفس هي المدركة والعين هي باب الألوان والنفس هي السامعة الذائقة وإنما الأنف والأذن بابان. ولولا أن العقل في الرأس لما ذهب العقل من الضربة تصيبه. وفي الرأس الحواس الخمس. وكان ينشد قول الشاعر: وكان يقول: الناس لم يقولوا: هذا رأس الأمر وفلان رأس الكتيبة وهو رأس القوم وهم رؤوس الناس وخراطيمهم وأنفهم ويستقوا من الرأس الرياسة والرئيس - وقد رأس القوم فلان - إلا والرأس هو المثل وهو المقدم. وكان إذا فرغ من أكل الرأس عمد إلى القحف وإلى الجبين فوضعه بقرب بيوت النمل والذر. فإذا اجتمعت فيه أخذه فنفضه في طست فيها ماء. فلا يزال يعيد ذلك في تلك المواضع حتى يقلع أصل النمل والذر من داره. فإذا فرغ من ذلك ألقاه في الحطب ليوقد به سائر الحطب. وكان إذا كان يوم الرءوس أقعد ابنه معه على الخوان. إلا أن ذلك بعد تشرط طويل وبعد أن يقف به على ما يريد! وكان فيما يقول له: إياك ونهم الصبيان وشره الزراع وأخلاق النوائح. ودع عنك خبط الملاحين والفعلة ونهش الأعراب والمهنة. وكل ما بين يديك فإنما حقك الذي وقع لك وصار أقرب إليك. وأعلم أنه إذا كان في الطعام شيء طريف ولقمة كريمة ومضغة شهية فإنما ذلك للشيخ المعظم والصبي المدلل. ولست واحداً منهما. فأنت قد تأتي الدعوات والولائم وتدخل منازل الإخوان وعهدك باللحم قريب وإخوانك أشد قرماً إليه منك. وإنما هو رأس واحد. فلا عليك أن تتجافى عن بعض وتصيب بعضاً. وأنا بعد أكره لك الموالاة بين اللحم فإن الله يبغض أهل البيت اللحمين. وكان يقول: إياكم وهذه المجازر فإن لها ضراوة كضراوة الخمر. وكان يقول: مدمن اللحم كمدمن الخمر. وقال الشيخ ورأى رجلاً يأكل اللحم فقال: لحم يأكل لحماً! أف لهذا عملاً! وذكر هرم بن قطبة اللحم فقال: وإنه ليقتل السباع. وقال المهلب: لحم وارد على غير قاوم هذا الموت الأحمر. وقال الأول: أهلك الرجال الأحمران: اللحم والخمر وأهلك النساء الأحمران: الذهب والزعفران. أي بني عود نفسك الأثرة ومجاهدة الهوى والشهوة. ولا تنهش نهش الأفاعي ولا تخضم خضم البراذين ولا تدم الأكل إدامة النعاج ولا تلقم لقم الجمال قال أبو ذر لمن بذل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: يخضمون ونقضم والموعد الله. إن الله قد فضلك. فجعلك إنساناً فلا تجعل نفسك بهيمة ولا سبعاً. واحذر سرعة الكظة وسرف البطنة. وقد قال بعض الحكماء: إذا كنت بطيناً فعد نفسك في الزمني. واعلم أن الشبع داعية البشم وأن البشم داعية السقم وأن السقم داعية الموت. ومن مات هذه الميتة فقد مات ميتة لئيمة. وهو قاتل نفسه وقاتل نفسه ألوم من قاتل غيره. وأعجب إن أردت العجب! وقد قال الله جل ذكره: {وَلاَ تَقْتُلُواْ أَنفُسَكُمْ}. - وسواء قتلنا أنفسنا أو قتل بعضنا بعضاً كان ذلك للآية تأويلاً. أي بني إن القاتل والمقتول في النار. ولو سألت حذاق الأطباء لأخبروك أن عامة أهل القبور إنما ماتوا بالتخم. واعرف خطأ من قال: أكلة وموتة! وخذ بقول من قال: رب أكلة تمنع أكلات. وقد قال الحسن: يا بن آدم كل في ثلث بطنك واشرب في ثلث بطنك ودع الثلث للتفكر والتنفس. وقال بكر بن عبد الله المزني: ما وجدت طعم العيش حتى استبدلت الخمص بالكظة وحتى لم ألبس من ثيابي ما يستخدمني وحتى لم آكل إلا ما لا أغسل يدي منه. يا بني والله ما أدى حق الركوع ولا وظيفة السجود ذو كظة ولا خشع الله ذو بطنة. والصوم مصحة والوجبات عيش الصالحين. ثم قال: لأمر ما طالت أعمار الهند وصحت أبدان الأعراب. لله در الحارث ابن كلدة حين زعم أن الدواء هو الأزم وأن الداء هو إدخال الطعام في أثر الطعام! أي بني لم صفت أذهان العرب ولم صدقت أحساس العرب ولم صححت أبدان الرهبان مع طول الإقامة في الصوامع وحتى لم تعرف النقرس ولا وجع المفاصل ولا الأورام إلا لقلة الرزق من الطعام وخفة الزاد والتبلغ باليسير. أي بني إن نسيم الدنيا وروح الحياة أفضل من أن تبيت كظيظاً وأن تكون لقصر العمر حليفاً. وكيف لا ترغب في تدبير يجمع لك صحة البدن وذكاء الذهن وصلاح المعى وكثرة المال والقرب من عيش الملائكة أي بني لم صار الضب أطول شيء عمراً إلا لأنه إنما يعيش بالنسيم ولم زعم الرسول صلى الله عليه وسلم أن الصوم وجاء إلا ليجعل الجوع حجازاً دون الشهوات. افهم تأدب الله فإنه لم يقصد به إلا مثلك. أي بني قد بلغت تسعين عاماً ما نقص لي سن ولا تحرك لي عظم ولا انتشر لي عصب ولا عرف دنين أذن ولا سيلان عين ولا سلس بول! ما لذلك علة إلا التخفيف من الزاد. فإن كنت تحب الحياة فهذه سبيل الحياة وإن كنت تحب الموت فلا يبعد الله إلا من ظلم. هذه كانت وصيته في يوم الرءوس وحده! فلم يكن لعياله إلا التقمم ومص العظم! وكان لا يشتري الرأس إلا في زيادة الشهر لمكان زيادة الدماغ. وكان لا يشتري إلا راس فتي لوفارة الدماغ لأن دماغ الفتي أوفر ويكون مخه أنقص ومخ المسن أوفر ودماغه أنقص. وتزعم الأعراب والعرب أن النطفة إذا وقعت في الرحم في أول الهلال خرج الولد قوياً ضخماً وإذا كان في المحاق خرج ضئيلاً شختاً. وأنشد قول الشاعر: لقحت في الهلال عن قبل الطه ر وقد لاح للصباح بشير ثم نمى ولم ترضع فلوا ورضاع المحج عيب كبير وكان أبو عبد الرحمن يشتري ذلك الرأس من جميع رءاسي بغداد إلا من رءاسي مسجد ابن رغبان. وكان لا يشتريه إلا يوم سبت. واختلط عليه الأمر قيما بين الشتاء والصيف. فكان مرة يشتريه في هذا الزمان ومرة يشتريه في هذا الزمان. وأما زهده في رءوس مسجد ابن رغبان فإن البصريين يختارون لحم الماعز الخصي على الضأن كله. ورءوس الضأن أشحم وألحم وأرخص رخصاً وأطيب. ورأس التيس أكثر لحماً من رأس الخصي لأن الخصي من الماعز يعرق جلده ويقل لحم رأسه. ولا يبلغ جلده وإن كان ماعزاً في الثمن عشر ما يبلغ جلد التيس. ولا يكون رأسه إلا دوناً. ولذلك تخطاه إلى غيره. وأما اختياره شراء الرءوس يوم السبت فإن القصابين يذبحون يوم الجمعة أكثر فتكثر الرءوس يوم السبت على قدر الفضل فيما يذبحون ولأن العوام والتجار والصناع لا يقومون إلى أكل الرءوس يوم السبت مع قرب عهدهم بأكل اللحم يوم الجمعة ولأن عامتهم قد بقيت عنده فضلة فهي تمنعه من الشهوة ولأن الناس لا يكادون يجمعون على خوان واحد بين الرءوس واللحم. وأما اختلاط التدبير عليه في فرق ما بين الشتاء والصيف فوجه ذلك أن العلل كانت تتصور له وتعرض له الدواعي على قدر قرمه وحركة شهوته صيفاً وافق ذلك أم شتاء. فإن اشتراه في الصيف فلأن اللحم في الصيف ارخص. والرءوس تابعة للحم ولأن الناس في الشتاء لها آكل وهم لها في القيظ أترك. فكان يختار الرخص على حسن الموقع. فإذا قويت دواعيها في الشتاء قال: راس واحد شتوي كرأسين صيفيين! لأن المعلوفة غير الراعية. وما أكل الكسب في الحبس موثقاً غير ما أكل الحشيش في الصحراء مطلقاً. وكان على ثقة أنه سيأتي عليه في الشتاء مع صحته وبدنه وفي شك من استبقائه في الصيف. ولنقصان شهوات الناس للرءوس في الصيف كان يخاف جريرة تلك البقية وجناية تلك الفضلة وكان يقول: إن أكلتها بعد الشبع لم آمن العطب وإن تركتها لهم في الصيف ولم يعرفوا العلة طلبوا ذلك مني في الشتاء. حثني المكي قال: كنت يوماً عند العنبري إذ جاءت جارية أمه ومعها كوز فارغ. فقالت: قالت أمك: بلغني أن عندك مزملة ويومنا يوم حار. فابعث إلي بشربة منها في هذا الكوز. قال: كذبت! أمي اعقل من أن تبعث بكوز فارغ ونرده ملآن! اذهبي فاملئيه من ماء حبكم وفرغيه في حبنا. ثم املئيه من ماء مزملتنا حتى يعود شيء بشيء! قال المكي: فإذا هو يريد أن تدفع جوهراً بجوهر وعرضاً بعرض حتى لا تربح أمه إلا صرف ما بين العرضين الذي هو البرد والحر. فأما عدد الجواهر والأعراض فمثلاً بمثل. وقال المكي: دخلت عليه يوماً وإذا عنده جلة تمر وإذا ظئره جالسة قبالته. فلما أكل تمرة رمى بنواتها إليها فأخذتها فمصتها ساعة ثم عزلتها. فقلت للمكي: أكان يدع على النواة من جسم التمر شيئاً قال: والله لقد رأيتها لاكت نواة مرة بعد أن مصتها فصاح بها صيحة لو كانت قتلت قتيلاً ما كان عنده أكثر من ذلك! وما كانت إلا في أن تناول الأعراض وتسلم إليه الجوهر. وكانت تأخذ حلاوة النواة وتودعها ندوة الريق. قال الخليل: كان أبو قطبة يستغل ثلاثة آلاف دينار. وكان من البخل يؤخر تنقية بالوعته إلى يوم المطر الشديد وسيل المثاعب ليكتري رجلاً واحداً فقط يخرج ما فيها ويصبه في الطريق فيجترفه السيل ويؤديه إلى القناة! وكان بين موضع بئره والصب قدر مائتي ذراع. فكان لمكان زيادة درهمين يحتمل الانتظار شهراً أو شهرين وإن هو جرى في الطريق وأوذي به الناس! وقال: ونظر يوماً إلى الكساحين وهو معنا جالس في رجال من قريش وهم يخرجون ما في بالوعته ويرمون به في الطريق وسيل المثاعب يحتمله فقال: أليس البط والجداء والدجاج والفراخ والدراج وخبز الشعير والصحناء والكراث والجواف جميعاً يصير إلى ما ترون فلم يغالي بشيء بصير هو والرخيص في معنى واحد قال: وهم ثلاثة إخوة: أبو قطبة والطيل وبابي من ولد عتاب بن أسيد - واحد منهم كان يحتج عن حمزة ويقول: استشهد قبل أن يحج. والآخر كان يضحي عن أبي بكر وعمر ويقول: أخطأ السنة في ترك الضحية. وكان الآخر يفطر عن عائشة أيام التشريق ويقول: غلطت - رحمها الله - في صومها أيام العيد. فمن صام عن أبيه وأمه فأنا أفطر عن عائشة. حدثتني امرأة تعرف الأمور قالت: كان في الحي مأتم اجتمع فيه عجائز من عجائز الحي. فلما رأين أن أهل المأتم قد أقمن المناحة اعتزلن وتحدثن. فبينا هن في حديثهن إذ ذكرن بر الأبناء بالأمهات وإنفاقهم عليهن. وذكرت كل واحدة منهن ما يوليها ابنها. فقالت واحدة منهن وأم فيلويه ساكتة - وكانت امرأة صالحة وابنها يظهر النسك ويدين بالبخل وله حانوت في مقبرة بني حصين يبيع فيها الأسقاط. - قالت: فأقبلت على أم فيلويه قلت لها: ما لك لا تحدثين معنا عن ابنك كما يتحدثن وكيف صنع فيلويه فيما بينك وبينه قالت: كان يجري علي في كل أضحى درهماً! فقالت: وقد قطعه أيضاً! قالت: ما كان يجري علي إلا ذاك. ولقد ربما أدخل أضحى! فقالت: فقلت: يا أم فيلويه وكيف يدخل أضحى في أضحى قد يقول الناس: إن فلاناً أدخل شهراً في شهر ويوماً في يوم. فأما أضحى في أضحى فهذا لا يشركه فيه أحد!
كان تمام بن جعفر بخيلاً على الطعام مفرط البخل. وكان يقبل على كل من أكل خبزه بكل علة ويطالبه بكل طائلة وحتى ربما استخرج عليه أنه لابن جلاد الدم. وكان إن قال له نديم له: ما في الأرض أحد أمشي مني ولا على ظهرها أحد أقوى على الحضر مني! قال: وما يمنعك من ذلك وأنت تأكل أكل عشرة وهل يحمل الرجل إلا البطن لا حمد الله من يحمدك! فإن قال: لا والله إن أقدر أن أمشي لأني أضعف الخلق عنه وإني لأنبهر من مشى ثلاثين خطوة! قال: وكيف تمشي وقد جعلت في بطنك ما يحمله عشرون حمالاً! وهل ينطلق الناس إلا مع خفة الأكل وأي بطين بقدر على الحركة وإن الكظيظ ليعجز عن الركوع والسجود فإن شكا ضرسه وقال: ما نمت البارحة مع وجعه وضربانه قال: عجبت كيف اشتكيت واحداً وكيف لم تشتك الجميع! وكيف بقيت إلى اليوم في فيك حاكة! وأي ضرس يقوى على الدرس والطحن! والله إن الأرحاء السورية لتكل وإن الميجان الغليظ ليتعبه الدق! ولقد استبطأت لك هذه العلة! ارفق فإن الرفق يمن ولا تخرق بنفسك فإن الخرق شؤم! وإن قال: لا والله إن اشتكيت ضرساً لي قط ولا تجلجل لي سن عن موضعه منذ عرفت نفسي قال: يا مجنون! لأن كثرة المضغ تشد العمور وتقوي الأسنان وتدبغ اللثة وتغدو أصولها. وإعفاء الأضراس من المضغ يريحها. وإنما الفم جزء من الإنسان. وكما الإنسان نفسه إذا تحرك وعمل قوى وإذا طال سكونه تفتخ واسترخى فكذلك الأضراس. ولكن رفقاً! فإن الإتعاب ينقص القوة. ولكل شيء مقدار ونهاية. فهذا ضرسك لا تشتكيه بطنك أيضاً لا تشتكيه فإن قال: والله إن أروى من الماء. وما أظن أن في الدنيا أحداً أشرب مني للماء قال: لابد للتراب من ماء ولابد للطين من ماء يبله ويرو. أوليست الحاجة على قدر كثرته وقلته والله لو شربت ماء الفرات ما استكثرته لك مع ما أرى من شدة أكلك وعظم لقمتك! تدري ما قد تصنع أنت والله تلعب! أنت لست ترى نفسك! فسل عنك من يصدقك حتى تعلم أن ماء فإن قال: ما شربت اليوم ماء البتة وما شربت أمس بمقدار نصف رطل وما في الأرض إنسان أقل شرباً مني للماء قال: لأنك لا تدع لشرب الماء موضعاً! ولأنك تكنز في جوفك كنزاً لا يجد الماء معه مدخلاً! والعجب لا تتخم لأن من لا يشرب الماء على الخوان لا يدري مقدار ما أكل ومن جاوز مقدار الكفاية كان حرياً بالتخمة. فإن قال: ما أنام الليل كله وقد أهلكني الأرق قال: وتدعك الكظة والنفخة والقرقرة أن تنام والله لو لم يكن إلا العطش الذي ينبه الناس لما نمت. ومن شرب كثيراً بال كثيراً. ومن كان الليل كله بين شرب وبول كيف يأخذه النوم فإن قال: ما هو إلا أن أضع رأسي فإنما أنا حجر ملقى إلى الصبح قال: ذلك لأن الطعام يسكن ويخدر ويحير ويبل الدماغ ويبل العروق ويسترخي عليه جميع البدن. ولو كان في الحق لكان ينبغي أن تنام الليل والنهار! فإن قال: أصبحت وأنا لا أشتهي شيئاً قال: إياك أن تأكل قليلاً ولا كثيراً فإن أكل القليل على غير شهوة أضر من الكثير مع الشهوة. قال الخوان: ويل لي ممن قال: لا أريد! وبعد وكيف تشتهي الطعام اليوم وأنت قد أكلت بالأمس طعام عشرة! وكان كثيراً ما يقول لندمائه: إياكم والأكل على الخمار فإن دواء الخمار الشراب. الخمار تخمة. والمتخم إذا أكل مات لا محالة. وإياكم والإكثار في عقب الحجامة والفصد والحمام. وعليكم بالتخفيف في الصيف كله. واجتنبوا اللحم خاصة. وكان يقول: ليس يفسد الناس إلا الناس: هذا الذي يتكلم بالكلام البارد وبالطرف المستنكرة لو لم يصب من يضحك له وبعض من يشكره ويتضاحك له - أوليس هو عنده إلا أن يظهر العجب له - لما تكلف النوادر. ألا أهلك قول الناس للأكول النهم وللرغيب الشره: فلان حسن الأكل! هو الذي أهلكه وزاد في رغبته حتى جعل ذلك صناعة وحتى ربما أكل - لمكان قولهم وتقريبهم وتعجبهم - ما لا يطيقه فيقتل. فلا يزال قد هجم على قوم فأكل زادهم وتركهم بلا زاد! فلو قالوا بدل قولهم: فلان حسن الأكل: فلان أقبح الناس أكلاً كان ذلك صلاحاً لفريقين. ولا يزال البخيل على الطعام قد دعا الرغيب البطن واتخذ له الطعام الطيب لفي عن نفسه المقالة وليكذب عن نفسه تلك الظنون. ولو كان شدة الضرس يعد في المناقب ويمدح صاحبه في المجالس لكان الأنبياء آكل الخلق ولخصهم الله - جل ذكره - من الرغب بما لم يعطه أحداً من العالمين. وكيف وفي مأثور الحديث: ( إن المؤمن يأكل في معي واحد وإن المنافق يأكل في سبعة أمعاء ). أولسنا قد نراهم يشتمون بالنهم وبالرغب وبكثرة الأكل ويمدحون بالزهادة وبقلة الطعام أوليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم: من أدله على الحسناء القتين وقد ساب رجل أيوب ابن سليمان بن عبد الملك فقال في بعض ما يسبه: ماتت أمك بغراً وأبوك بشماً! وبعد فهل سمعتم بأحد قط فخر بشدة أكل أبيه فقال: أنا ابن آكل العرب بل قد رأينا أصحاب النبيذ والفتيان يتمدحون بكثرة الشرب كما يتمدحون بقلة الرزق. ولذلك قالت العرب: قال الشاعر: تكفيه فلذة كبد إن ألم بها من الشواء ويروي شربه الغمر وقال: لا يتأرى لما في القدر يطلبه ولا تراه أمام القوم يقتفر وقال: لا يغمز الساق من أين ولا وصم ولا يعض على شرسوفه الصفر والصفر هي حيات البطون إنما تكون من الفضول والتخم ومن الفساد والبشم. وشرب مرة نبيذ وغناه المغنى فشق قميصه من الطرب. فقال لمولى له له يقال له المحلول وهو إلى جنبه: شق أيضاً أنت - ويلك - قميصك! - والمحلول هذا من الآيات - قال: لا والله لا أشقه وليس لي غيره. قال: فشقه وأنا أكسوك غداً. قال: فأنا أشقه غداً. قال: أنا ما أصنع فلم أسمع بإنسان يقايس ويناظر في الوقت الذي إنما يشق فيه القميص من غلبة الطرب غيره وغير مولاه محلول. دخل على الأعمى على يوسف بن كل خير وقد تغدى. فقال: يا جارية هاتي لأبي الحسن غداء. قالت: لم يبق عندنا شيء. قال: هاتي - ويلك! - ما كان فليس من أبي الحسن حشمة! ولم يشك على أنه سيؤتي برغيف ملطخ وبرقاقة ملطخة وبسكر وبقية مرق وبعرق وبفضلة شواء وببقايا ما يفضل في الجامات والسكرجات. فجاءت بطبق ليس عليه إلا رغيف أرز قاحل لا شيء غيره. فلما وضعوا الخوان بين يديه فأجال يده فيه وهو أعمى فلم يقع إلا على ذلك الرغيف وقد عل أن قوله: ليس منه حشمة لا يكون إلا مع القليل. فلم يظن أن الأمربلغ ذلك. فلما لم يجد غيره قال: ويلكم! ولأكل هذا بمره رفعتم الحشمة كلها والكلام لم يقع إلا على هذا حدثني محمد بن حسان الأسود قال: أخبرني زكريا القطان قال: كان للغزال قطعة أرض قدام حانوتي فأكرى نصفها من سماك يسقط عنه ما استطاع من مؤنة الكراء. قال: وكان الغزال أعجوبة في البخل. وكان يجيء من منزله ومعه رغيف في كمه. فكان أكثر دهره يأكله بلا أدم. فإذا أعيا عليه الأمر أخذ من ساكنه جوافة بحبة وأثبت عليها فلساً في حسابه! فإذا أراد أن يتغدى أخذ الجوافة فمسحها على وجه الرغيف ثم عض عليه! وربما فتح بطن الجوافة فيطر جنبيها وبطنها باللقمة بعد اللقمة! فإذا خاف أن ينهكها ذلك وينضم بطنها طلب من ذلك السماك شيئاً من ملح السمك فحشا جوفها لينفخها وليوهم أن هذا هو ملحها الذي ملحت به! ولربما غلبته شهوته فكدم طرف أنفها وأخذ من طرف الأرنبة ما يسيغ به لقمته! وكان ذلك منه لا يكون إلا في آخر لقمة ليطيب فمه بها! ثم يضعها في ناحية. فإذا اشترى من امرأة غزلاً أدخل تلك الجوافة في ثمن الغزل من طريق إدخال العروض وحسبها عليها بفلس فيسترجع رأس المال ويفضل الأدم. وروى أصحابنا عن عبد الله بن المقفع قال: كان ابن جذام الشيء يجلس إلي. وكان ربما انصرف معي إلى المنزل فيتغذى معنا ويقيم إلى أن يبرد. وكنت أعرفه بشدة البخل وكثرة المال. فألح علي في الاستزارة وصممت عليه في الامتناع. فقال: جعلت فداك! أنت تظن أني ممن يتكلف وأنت تشفق علي! لا والله! إن هي إلا كسيرات يابسة وملح وماء الحب! فظننت أنه يريد اختلابي بتهوين الأمر عليه. وقلت: إن هذا كقول الرجل: يا غلام أطعمنا كسرة وأطعم السائل خمس تمرات. ومعناه أضعاف ما وقع اللفظ عليه. وما أظن أن أحداً يدعو مثلي إلى الحربية من الباطنة ثم يأتيه بكسرات وملح. فلما صرت عنده وقربه إلي إذ وقف سائل بالباب فقال: أطعمونا مما تأكلون أطعمكم الله من طعام الجنة! قال: بورك فيك! فأعاد الكلام فأعاد عليه مثل ذلك القول. فأعاد عليه السائل فقال: اذهب - ويلك! - فقد ردوا عليك. فقال السائل: سبحان الله! ما رأيت كاليوم أحداً يرد من لقمة والطعام بين يديه! قال: اذهب - ويلك! - وإلا خرجت إليك والله فدققت ساقيه! فقلت للسائل: اذهب وأرح نفسك فإنك لو تعرف من صدق وعبده مثل الذي أعرف لما وقفت طرفة عين بعد رده إياك! وكان أبو يعقوب الذقنان يقول: ما فاتني اللحم منذ ملكت المال. وكان إذا كان يوم الجمعة اشترى لحم بقر بدرهم واشترى بصلاً بدانق وباذنجاناً بدانق وقرعة بدانق. فإذا كان أيام الجزر فجزر بدانق! وطبخه كله سكباجاً. فأكل وعياله يومئذ خبزهم بشيء من رأس القدر وما ينقطع في القدر من البصل والباذنجان والجزر والقرع والشحم واللحم. فإذا كان يوم السبت ثردوا خبزهم في المرق. فإذا كان يوم الأحد أكلوا البصل. فإذا كان يوم الاثنين أكلوا الجزر. فإذا كان يوم الثلاثاء أكلوا القرع. فإذا كان يوم الأربعاء أكلوا الباذنجان. فإذا كان يوم الخميس أكلوا اللحم. فلهذا كان يقول: ما فاتني اللحم منذ ملكت المال! قال أصحابنا: نزلنا بناس من أهل الجزيرة وإذا هم في بلاد باردة وإذا حطبهم شر حطب وإذا الأرض كلها غابة واحدة طرفاء. فقلنا: ما في الأرض أكرم من الطرفاء. قالوا: هو كريم ومن كرمه نفر. فقلنا: وما الذي تفرون منه قالوا: دخان الطرفاء يهضم الطعام وعيالنا كثير! وقد عاب ناس أهل المازح والمديبر بأمور: منها أن خشكانهم من دقيق شعير وحشوه الذي فيه من الجوز والسكر من دقيق خشكار. وأهل المازج لا يعرفون بالبخل. ولكنهم أسوأ الناس حالاً. فتقديرهم على قدر عيشهم. وإنما نحكي عن البخلاء الذين جمعوا بين البخل واليسر وبين خصب البلاد وعيش أهل الجدب. فأما من يضيق على نفسه لأنه لا يعرف إلا الضيق فليس سبيله سبيل القوم. قال المكي: كان لأبي عم يقال له سليمان الكثري. سمى بذلك لكثرة ماله. وكان يقربني وأنا صبي إلى أن بلغت. ولم يهب لي مع ذلك التقريب شيئاً قط. وكان قد جاوز في ذلك حد البخلاء. فدخلت عليه يوماً وإذا قدامه قطع دار صيني لا تسوى قيراطاً. فلما نال حاجته منها مددت يدي لآخذ منها قطعة. فلما نظر إلي قبضت يدي! فقال: لا تنقبض وانبسط واسترسل. وليحسن ظنك فإن حالك عندي على ما تحب! فخذه كله فهو لك بزوبره وبحذافيره! وهو لك جميعاً! نفسي بذلك سخية! والله أعلم أني مسرور بما وصل إليك من الخير! فتركته بين يديه وقمت من عنده وجعلت وجهي كما أنا إلى العراق! فما رأيته وما رآني حتى مات. وقال المكي: سمعني سليمان وأنا أنشد شعر امرئ القيس: لنا غنم نسوقها غزار كأن قرون جلتها العصي فتملأ بيتنا أقطاً وسمناً وحسبك من غنىً شبع وروي قال: لو كان الذي قال ليحيى بن خالد حين نقب في أبي قبيس وزاد في داره: عمدت إلى شيخ الجبال فزعزعته وثلمت فيه. وقال حين عوتب في قلة الضحك وشدة القطوب: إن الذي يمنعني من الضحك أن الإنسان أقرب ما يكون من البذل إذا ضحك وطابت نفسه! صحبني محفوظ النقاش من مسجد الجامع ليلاً. فلما صرت قرب منزله - وكان منزله أقرب إلى مسجد الجامع من منزلي - سألني أن أبيت عنده. وقال: أين تذهب في هذا المطر والبرد ومنزلي منزلك وأنت في ظلمة وليس معك نار وعندي لباً لم ير الناس مثله وتمر ناهيك به جودة لا تصلح إلا له! فملت معه فأبطأ ساعة. ثم جاءني بجام لبإ وطبق تمر. فلما مددت قال: يا أبا عثمان إنه لبإ وغلظه! وهو الليل وركوده! ثم ليلة مطر ورطوبة وأنت رجل قد طعنت في السن. ولم تزل تشكو من الفالج طرفاً. وما زال الغليل يسرع إليك. وأنت في الأصل لست بصاحب عشاء! فإن أكلت اللبأ ولم تبالغ كنت لا آكلاً ولا تاركاً وحرشت طباعك. ثم قطعت الأكل أشهى ما كان إليك. وإن بالغت بتنا في ليلة سوء من الاهتمام بأمرك ولم نعد لك نبيذاً ولا عسلاً. وإنما قلت هذا الكلام لئلا تقول غداً: كان وكان! والله وقد وقعت بين نابي أسد! لأني لو لم أجئك به وقد ذكرته لك قلت: بخل به وبدا له فيه. وإن جئت به ولم أحذرك منه ولم أذكرك كل ما عليك فيه قلت: لم يشفق علي ولم ينصح. فقد برئت إليك من الأمرين جميعاً. وإن شئت فأكلة وموتة! وإن شئت فبعض الاحتمال ونوم على سلامة! فما ضحكت قط كضحكي تلك الليلة. ولقد أكلته جميعاً فما هضمه إلا الضحك والنشاط والسرور فيما أظن. ولو كان معي من يفهم طيب ما تكلم به لأتى على الضحك أو لقضى علي. ولكن ضحك من كان وحده لا يكون على شطر مشاركة الأصحاب. وقال أبو القماقم: أول الإصلاح ألا يرد ما صار في يدي لك فإن كان ما صار في يدي لي فهو لي وإن لم يكن لي فأنا أحق به ممن صيره في يدي! ومن أخرج من يده شيئاً إلى يد غيره من غير ضرورة فقد أباحه لمن صيره إليه! وتعريفك إياه مثل إباحته. وقالت له امرأة: ويحك يا أبا القماقم! إني قد تزوجت زوجاً نهارياً والساعة وقته. وليست على هيئته. فاشتر لي بهذا الرغيف أساً وبهذا الفلس دهناً فإنك تؤجر! فعسى الله أن يلقي محبتي في قلبه فيرزقني على يدك شيئاً أعيش به فقد والله ساءت حالي وبلغ المجهود مني - فأخذهما وجعله وجهه! فرأته بعد أيام فقالت: سبحان الله! أما رحمتني مما صنعت بي! قال: ويحك! سقط والله مني الفلس فمن الغم أكلت الرغيف! وتعشق واحدة فلم يزل يتبعها ويبكي بين يديها حتى رحمته. وكانت مكثرة وكان مقلاً. فاستهداها هريسة وقال: أنتم أحذق بها! فلما كان بعد أيام تشهى عليها رءوساً. فلما كان بعد قليل طلب منها حيسة. فلما كان بعد ذلك تشهى عليها طفيشلية. قالت المرأة: رأيت عشق الناس يكون في القلب وفي الكبد وفي الأحشاء. وعشقك أنت ليس يجاوز معدتك! وقال أبو الأصبغ: ألح أبو القماقم على قوم عند الخطبة إليهم يسأل عن مال امرأة ويحصيه ويسأل عنه. فقالوا: قد أخبرناك بما لها فأنت أي شيء مالك قال: وما سؤالكم عن مالي الذي لها يكفيني ويكفيها! سمعت شيخاً من مشايخ الأبلة يزعم أن فقراء أهل البصرة أفضل من فقراء أهل الأبلة. قلت: بأي شيء فضلتم قال: هم أشد تعظيماً للأغنياء وأعرف بالواجب. ووقع بين رجلين أبليين كلام فأسمع أحدهما صاحبه كلاماً غليظاً فرد عليه مثل كلامه. فرأيتهم قد أنكروا ذلك إنكاراً شديداً ولم أر لذلك سبباً. فقلت: لم أنكرتم أن يقول له مثل ما قال قالوا: لأنه أكثر منه مالاً. وإذا جوزنا هذا له جوزنا لفقرائنا أن يكافئوا أغنياءنا ففي هذا الفساد كله! وقال حمدان بن صباح: كيف صار رياح يسمعني ولا أسمعه أفهو أكثر مالاً مني ثم قال: ويكون الزائر من أهل البصرة عند الأبلى مقيماً مطمئناً. فإذا جاء المد قالوا: ما رأينا مداً قط ارتفع ارتفاعه. وما أطيب السير في المد! والسير في المد إلى البصرة أطيب من السير في الجزر إلى الأبلة! فلا يزالون به حتى أن من الرأي أن يغتنم ذلك المد بعينه! كان أحمد الخاركي بخيلاً وكان نفاجاً. وهذا أغيظ ما يكون. وكان يتخذ لكل جبة أربعة أزرار ليرى الناس أن عليه جبتين ويشتري الأعذاق والعراجين والسعف من الكلاء فإذا جاء الحمال إلى بابه تركه ساعة يوهم الناس أن له من الأرضين ما يحتمل أن يكون ذلك كله منها. وكان يكتري قدور الخمارين التي تكون للنبيذ ثم يتحرى أعظمها ويهرب من الحمالين بالكراء كي يصيحوا بالباب: يشترون الداذي والسكر ويحبسون الحمالين بالكراء! وليس في منزله رطل دبس! وسمع قول الشاعر: رأيت الخبز عز لديك حتى حسبت الخبز في جو السحاب وما روحتنا عنا ولكن خفت مرزئة الذباب فقال: ولم ذب عنهم لعنه الله! ما أعلم إلا أنه شهى إليهم الطعام ونظف لهم القصاع وفرغهم له وسخرهم عليه! ثم ألا تركها تقع في قصاعهم وتسقط على آنافهم وعيونهم! هو والله أهل لما هو أعظم من هذا! كم ترون من مرة قد أمرت الجارية أن تلقي في القصعة الذبابة والذبابتين والثلاثة حتى يتقزز بعضهم ويكفي الله شره! قال: وأما قوله: رأيت الخبز عز لديك حتى قال: فإن لم أعز هذا الشيء الذي هو قوام أهل الأرض وأصل الأقوات وأمير الأغذية فأي شيء أعز إي والله إني أعزه وأعزه وأعزه وأعزه مدى النفس ما حملت عيني الماء. وبلغ من نفجه مع ذلك ما أخبرني به إبراهيم بن هانئ قال: كنت عنده يوماً إذ مر به بعض الباعة فصاح الخوخ الخوخ! فقلت: وقد جاء الخوخ بعد قال: نعم قد جاء وقد أكثرنا منه. فدعاني الغيظ عليه إلى أن دعوت البياع وأقبلت على ابن الخاركي فقلت: ويحك! نحن لم نسمع به بعد وأنت قد أكثرت منه! وقد تعلم أن أصحابنا أترف منك! ثم أقبلت على البياع فقلت: كيف تبيع الخوخ فقال: ستة بدرهم قلت: أنت ممن يشتري ست خوخات بدرهم وأنت تعلم أنه بياع بعد أيام مائتين بدرهم ثم تقول: وقد أكثرنا منه وهذا يقول: ستة بدرهم قال: وأي شيء أرخص من ستة أشياء بشيء كان غلام صالح بن عفان يطلب منه لبيت الحمار بالليل. فكان يعطيه كل ليلة ثلاثة أفلس - والفلوس أربعة طسوج - ويقول: طسوج يفضل وحبة تنقص وبينهما يرمي الرامي! وكان يقول لابنه: تعطي صاحب الحمام وصاحب المعبر لكل واحد منهما طسوجاً وهو إذا لم ير معك إلا ثلاثة أفلس لم يردك قال أبو كعب: دعا موسى بن جناح جماعة من جيرانه ليفطروا عنده في شهر رمضان. وكنت فيهم. فلما صلينا المغرب ونجز ابن جناح أقبل علينا ثم قال: لا تعجلوا فإن العجلة من الشيطان. وكيف لا تعجلون وقد قال الله جل ذكره: وكان الإنسان عجولاً وقال: خلق الإنسان من عجل - اسمعوا ما أقول فإن فيما أقول حسن المؤاكلة والبعد من الأثرة والعاقبة الرشيدة والسيرة المحمودة. وإذا مد أحدكم يده إلى الماء فاستسقى - وقد أتيتم ببهطة أو بجوذابة أو بعصيدة أو ببعض ما يجري في الحلق ولا يساغ بالماء ولا يحتاج فيه إلى مضغ وهو طعام يد لا طعام يدين وليست على أهل اليد منه مؤنة وهو مما يذهب سريعاً - فأمسكوا حتى يفرغ صاحبكم فإنكم تجمعون عليه خصالاً: منها أنكم تنغصون عليه بتلك السرعة إذا علم أنه لا يفرغ إلا مع فراغكم. ومنها أنكم تخنقونه ولا يجد بداً من مكافأتكم فلعله أن يتسرع إلى لقمة حارة فيموت وأنتم ترونه. وأدنى ذلك أن تبعثوه على الحرص وعلى عظم اللقم. ولهذا ما قال الأعرابي حين قيل له: لم تبدأ بأكل اللحم الذي فوق الثريد قال: لأن اللحم ظاعن والثريد مقيم! قال أبو كعب: فربما نسي بعضنا فمد يده إلى القصعة وقد مد يده صاحبه إلى الماء فيقول له موسى: يدك يا ناسي! ولولا شيء لقلت لك: يا متغافل! قال: وأتانا بارزة. ولو شاء إنسان أن يعد حبها لعده لتفرقه ولقلته. قال: فنثروا عليها ليلة من ذلك مقدار نصف سكرة. فوقعت ليلتئذ في قطعة وكنت إلى جنبه فسمع صوتها حين مضغتها فضرب يده على جنبي ثم قال: اجرش يا أبا كعب اجرش! قلت: ويلك! أما تتقي الله! كيف أجرش جزءاً لا يتجزأ.
|